وفي آخر أيام شهر أكتوبر العظيم، الذي احتفلت مصر، وشعبها، وجيشها، بأغلى انتصاراتها، في العصر الحديث، وهو نصر يوم السادس من أكتوبر 1973، أو نصر العاشر، من رمضان، أو نصر عيد الغفران (Yom Kippur War)، كما تطلق عليه في إسرائيل.
وقبل بداية الحرب، التقى الرئيس الراحل أنور السادات، في برج العرب، في صيف 1973، مع المشير أحمد إسماعيل، ورئيس هيئة العمليات، وبعض من ضباط التخطيط في هيئة العمليات، لكي يطلع معهم على اللمسات الأخيرة لخطة العبور، حيث كان سيجتمع بعدها بأيام مع الرئيس حافظ الأسد لوضع التنسيق النهائي للحرب.
ويومها وخلال مناقشة الخطة، تحدث العقيد أحمد نبيه، والذي كان المسؤول عن خطة الخداع الاستراتيجي والتعبوي، وخلال عرضه لخطة الخداع، قال للرئيس السادات: «نريد أن نستغل حضرتك في خطة الخداع»، وابتسم الرئيس السادات، وقال له: «قول يا سيدي»، وقال العقيد أحمد نبيه: «يا فندم عايزين نبعت رسالة لإسرائيل، وبالذات لجولدا مائير إننا مش هنحارب»، وضحك الرئيس السادات، وقاله: «دي ست داهية» ثم استكمل أحمد نبيه: «نقولها إحنا مش هنحارب».
وعرض العقيد أحمد نبيه، فكرته بأن الرئيس السادات يمكن أن يرسل محمد حافظ إسماعيل، مستشاره للدفاع والأمن القومي، لمقابلة هنري كسينجر، وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت، وهو اليهودي الصهيوني المتعصب الذي يعشق إسرائيل، ويكره العرب، ليطلب منه أن يساعد مصر في إيجاد حل للمشكلة، ويبلغه اننا في ست سنوات كاملة في حالة أطلق عليها المصريين اللا سلم، واللا حرب، أن الرئيس السادات يقول أن الروس خدعوه، ورفضوا إمداد مصر بالأسلحة الهجومية.
ومن هنا قرر الرئيس السادات، طرد الخبراء الروس من مصر، ولم يتبق لنا غيركم أنتم الأمريكان، نريد حلا يا سيادة وزير الخارجية.
واستطرد نبيه قائلا: «وأعتقد يا سيادة الرئيس، أن كيسنجر سوف يتصل على الفور برئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير اليهودية وسوف يخبرها بعدم نية المصريين للهجوم لهذه الأسباب، وبالطبع سوف تصدقه جولدا مائير».
وبالفعل وافق الرئيس السادات، وقام محمد حافظ إسماعيل، بالاتصال بوزير الخارجية الأمريكي، هنري كيسنجر، يطلب تحديد موعد، وقابله في فرنسا، وتم اللقاء كما كان مخططًا من قبل، ويومها قال كيسنجر: «أعطوني بعد الوقت لأجد حلا لهذه القضية».
وكان رد محمد حافظ إسماعيل: «أنت قادر على الحل لقد نجحت في إخراج الأمريكان من مستنقع فيتنام وحصلت بذلك على جائزة نوبل للسلام، أرجوك، نريد حلا، لكي تأخذ جائزة نوبل الثانية، وأن تتحقق السلام بين مصر وإسرائيل»، وابتسم هنا كيسنجر، ابتسامة غرور، وعاد حافظ إسماعيل إلى مصر.
وفي الفيلم الذي أنتجته هوليود، ليكون قصة حقيقية لحياة جولدا مائير، فلقد عرض الفيلم أحداث يوم 6 من أكتوبر.
وفي اجتماع مجلس الحرب لوزراء إسرائيل، وفي الساعة العاشرة صباحا، طلب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، من جولدا مائيلر، قيام إسرائيل بتنفيذ ضربة استباقية ضد قوات الجيش المصري، في منطقة غرب القناة لمنع مصر من القيام بالهجوم، واقتحام قناة السويس، وهنا قالت جولدا مائير: «ألم يقم المصريين بتنفيذ مثل هذا التجميع، والحشد مرتين في الشهور السابقة، وتكبدنا خسائر كبيرة في استدعاء الاحتياط، وفي كل مرة، لم يحدث شيئًا، ولو أن هذه المرة، أنا متأكدة أنهم لن يستطيعوا الهجوم علينا».
وقالت: «إن هنري كيسنجر صديقي، وصديق إسرائيل، أبلغنا أن مصر غير قادرة على الهجوم، والروس رفضوا إعطائهم سلاح هجومي، واستطردت يا سيدي، رئيس الأركان أنت تعلم أن حتى الطائرات المصرية الميج 21 والسوخوي، هي صناعة روسية في الخمسينات، لن تستطيع أن تفعل شيئًا أمام طائراتنا الحديثة الأمريكية من سكاي هوك، والفانتوم، أنا أثق في كسينجر أكثر مما أثق في نفسي، لقد أكد لنا أن المصريين لن يهجموا أبدا، وما يفعلونه الآن، هي محاولات للضغط علينا، عند إجراء المفاوضات القادمة».
وهنا سألت جولدا مائير، وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي ديان، «ما رأيك؟» .. وكان رد موشى ديان: «أوافقك على رأيك، أن المصريين لن يهجموا، ولا داعي لهذه الضربة المسبقة».
وكان ذلك في العاشرة صباحا، واستمر الاجتماع حتى الثانية ظهرًا، ليسمع مجلس الوزراء الإسرائيلي، صفارات الإنذار تدوي في تل أبيب، وتطلب جولدا مائير، من الجميع النزول إلى مخبأ الحرب، ويبدو الذهول على وجه، جولدا، في الفيلم، وهي لا تصدق، وتقول: «ماذا حدث؟، إن كيسنجر لا يكذب أبدًا».
وهكذا نجحت مصر في خداع إسرائيل عن بدء الحرب يوم 6 من أكتوبر، مع غيرها من الإجراءات التي قامت بها، مثل فتح باب العمرة للضباط، وعائلاتهم في شهر رمضان، وكذلك تسريح دفعات رديف من الجنود في أول شهر أكتوبر، والتخطيط لزيارة وزير الدفاع المصري، لإحدى الدول الصديقة، وهي زيارة بالطبع لم تتم، ولكن كل هذه الإجراءات أقنعت إسرائيل بأن مصر لن تحارب.
وبمتابعة أحداث فيلم جولدا مائير، نجد أن من أجمل لقطات ذلك الفيلم أنه بعد حرب أكتوبر 1973، عقدت لجنة اجرانات لمحاسبة المقصرين في الحرب، وفيها ظهرت جولدا مائير، وهي تحاسب حيث تم سؤالها .. لماذا لم تنفذين الضربة الاستباقية التي طلبها رئيس الأركان؟، وكانت الإجابة أن موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي، وافقها الرأي، لذلك كانت خطة الخداع أحد مفاتيح نصر أكتوبر 1973.